[تعمل "جدلية" على نشر مقاطع من أعمال ومقالات أدباء وشخصيات نتناول سيرتها في "ملف من الأرشيف". نخصص فقرة هذا الأسبوع للأديبة الفلسطينية سميرة عزام (1927- 1967)، والتي اعتبرت من روّاد القصة القصيرة العربية منذ نشوئها في مطلع القرن الماضي. جمعت عزّام في قصصها ما بين الحداثي والنهضوي والسياسي والعاطفي. ودأبت خلال حياتها القصيرة على نشر عدد كبير من القصص القصيرة التي صوّرت الأماكن والتجارب المختلفة التي عاشتها كامرأة فلسطينية لاجئة وأديبة وصحافية وناشطة، عايشت النكبة ثم النكسة وما كفّت عن تصوير هذه التجارب في قصصها القصيرة وفي كتاباتها الصحفية. القصة القصيرة المنشورة أدناه بعنوان "نافخ الدواليب"، هي من مجموعة "أشياء صغيرة"، الصادرة عن "دار العلم للملايين"، بيروت 1954.]
نافخ الدواليب
لم أجد ما أفعله لأروح عن نفسي من السأم الذي جثم عليها ثقيلاً قابضاً خيراً من دخول إحدى دور السينما للتفرج على فيلم في حفلة السادسة مساء، التي اصطلح المتفرجون على تسميتها بالحفلة الماتينيه. ولم يكن في القاعة الفسيحة سوى نفر من المشاهدين جلهم من طلبة المدارس. فاتخذت لنفسي مقعداً، وما هي إلا دقائق حتى بدأ العرض فتسمرت عيني على شاشة راحت تعكس صوراً ومشاهد لفيلم من تلك الأفلام المطبوخة على عجل والتي لا يستسيغها المشاهد، إلا أن يكون ذا ذوق في الفن تنقصه السلامة. وضقت ذرعاً بالرواية ولما يزل العرض في منتصفه مع سابق تقديري بأن الفيلم لن يكون قوياً، فالدور هنا عادة تدخر الأفلام القوية لعطلة آخر الأسبوع حيث تضمن عدداً من المشاهدين يزيد بكثير على عدد روادها الذين يختلفون إليها في أواسط الأسبوع ليقتلوا فراغهم بأي شيء.
ولكني لم أستطع الصمود إلى النهاية فآثرت الانسحاب، دون أن أفكر في وجهة معينة أقصدها. وتسللت من الباب لأجد الدنيا في الخارج وقد لفتها عتمة الفسق وبدأت تستنجد بأنوار الكهرباء. ومضيت أبحث عن دراجتي بين تلك الدراجات المسندة إلى الحائط، إذ هي هنا –أي الدراجات- وسيلة الانتقال الوحيدة في هذا البلد، وإذا بي أرى صبياً ينحني على دولابها عابثاً "بالبرغي" المشدود فيرتخي العجل المنفوخ بحركة زفير قوية وفوجئ الولد بيدي الكبيرة تستقر على كتفه فما جرؤ على أن يرفع رأسه الي. فسحبته بقوة فانتصب وتبينت وجهه الملوث بزيوت التشحيم. لقد كان الصبي الذي يعمل في ورشة الدراجات القريبة. هنا وضح الأمر لدي إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي يعبث فيها بدراجتي، وتذكرت ما كنت أسمعه من بعض أصدقائي كيف كانوا يقبلون على دراجاتهم التي يتركونها بقرب النادي أو السينما أو منازلهم فيجدون العجلات وقد أفرغ هواؤها وصار من المتعذر عليهم ركوبها. ووجدت الأمر معقولاً بالنسبة للصبي يتسلل فيعبث بالاطارات حتى إذا ما تعذر دوران الدواليب حين خروجنا من دار السينما كان لا بد لنا أن نقصد المحل لنفخها. فينال قروشنا من أقرب طريق. وشعرت بالغيظ يأكلني فازداد ضغط يدي على كتفه وقلت:
- اذاً، هو أنت. انها وظيفة طيبة.
وانهارت أعصاب الفتى وصار يتلفت يمنة ويسرة والعرق البارد ينصب من جبهته اللامعة الصفراء.
- دعني يا سيدي.. أقسم بأنني ..
- بأنك ماذا؟ لقد ضبطتك بنفسي.
- انني .. اوه لن تفهمني لو تكلمت.
- ماذا لديك لتقول مبرراً هذه الدناءة؟
وهنا انتفض الولد وأمسك بيدي وأزاحها عن كتفه وقال:
- لا تتسرع باتهامي فلست دنيئاً، دعني بالله، ألا تفهم؟
وبدأت الدموع تغسل عينيه. وشعرت بغضبي يتحول إلى لون من الحيرة أمام توسلاته لي في ألا أشكوه للبوليس واعداً بنفخ العجلة دون مقابل في هذه المرة. وتخلص الولد مني قبل أن يسمع كلمة مطمئنة، وأقبل على عجلتي يقودها إلى محله وسارع باحضار منفاخه الكبير ونفخ عجلاتها، ثم مر عليها بخرقة جلت غبارها، ودفع بها إلي وتلك النظرة المرتعشة تطل من عينيه.
وابتسمت أنا قليلاً لأخفف من حدة تخوّفه، فاطمأن اليّ بعض الشيء وقال:
- "لو مررت بي يومياً لاعتنيت بدراجاتك.. مجاناً." وازدادت بسمتي اتساعاً فزال بعض ما في نفسه وتجرأ على أن يسأل:
- هل ستشكوني؟
والواقع أن فكرة ابلاغ الأمر للمركز لم تخطر لي ببال فالأمر في نظر مسالم مثلي أتفه من يضطرني للذهاب إلى المركز ثم الدخول في أخذ ورد لا ينتهيان لا سيما في هذا البلد الذي تهتم فيه السلطات بالصغائر اذ ليس لديها من الكبائر ما تشغل بها رجالها.
وقلت له وأنا استعد لركوب دراجتي:
- كلا، على أن لا تعود في المستقبل لمثل هذه الأساليب. وأدرت عجلتي باتجاه الطريق المفضية إلى بيتي وما قطعت مسافة يسيرة حتى شعرت بالصبي يتبعني على دراجته. وبحركة منه سد عليّ طريقي وقال باضطراب:
- سيدي، هذه الطريق تؤدي إلى المركز وأنت وعدتني..
وقاطعته بحدة:
- ولا أزال عند وعدي.
- "شكراً" قالها الصبي ببطء وهو يتفرس في عيني وهمّ بالعودة.
ولكنه تلكأ قليلاً وقال:
- كنت أود أن أقول لك شيئاً... ولكنني أخشى أن لا تستمع إلي.
ثم تلفت يمنة ويسرة وأردف:
- على كل حال إن هذا ليس بالمكان المناسب...
ولا أدري ما الذي دفعني إلى مسايرة الفتى والاستماع إليه. فقد شعرت بنوع من الاشفاق يجذبني نحوه فقلت له:
- تعال، وأخذته إلى مقهى قريب وانتحيت به ركناً وطلبت له زجاجة من شراب بالرد. ولعله أحس بعيني تتفرسان في وجهه فخفض رأسه وراح يعبث بأصابعه بحركة عصبية... وقطعت عليه صمته الحائر حين سألته:
- ماذا تريد أن تقول؟
- لا شيء... فقط أردت أن أسأل هل تظنني دنيئاً؟
ولم يسعفني جواب معقول رزين أرد به عليه فقال:
- انني أكاد أقرأ ما يجول بخاطرك. ومن حقك يا سيدي أن تزدري واحداً مثلي... فأنا أعلم أن في عملي هذا ما يدعو إلى الخجل.. ولكن...
- ولكن ماذا..
- إن ورائي أماً وأخاً وأختاً يعيشون على إبرة "امي" وما أربحه أنا من وراء نفخ العجلات. انني أعمل في الورشة حتى الخامسة مساء لقاء قروش قليلة، ثم يمضي "المعلم" تاركاً الورشة لي، وهذه فرصتي الوحيدة لأكسب قروشاً آكل بها. كم أشعر بالخجل حين أسمع في المدرسة الليلية دروساً تحث على الأمانة، وعلى الخلق القويم، ثم أجدني في النهار مضطراً إلى هذا السلوك. حتى أمي التقية لا تعلم سر هذه القروش اليومية، وإلا لما كانت ترضى بالربح عن هذه الطريق. إن من حظي أن ضبطني شخص طيب مثلك وإلا لكان مصيري اصلاحية الأحداث. ولكن أليس من التعاسة أني لا أستطيع أن أعدك بالكف عن هذه الحقارة إلا اذا اخترت أن أتضور مع عائلتي؟
وسكت الصبي إذ خنقته دموعه. فربتُّ على كتفه مخففاً ونهضت به لنغادر المكان. وقبل أن نفترق عند باب المقهى أخذ يدي يشد عليها وقدم لي يده الأخرى وفيها قروش وقال:
- إنك لا تستحق أن أبتز نقودك ظلماً، خذها فقد شاهدتك أكثر من مرة تنتظر دورك لنفخ العجلة.
ولم أدر ما أقول.. كل ما فعلته هو أنني لعنت الدنيا ثم أخرجت كل ما في جيبي من قروش فضية دفعتها إليه وأدرت وجهي خشية أن تطالعني عينان تسكنهما كبرياء جريح.
[سميرة عزام، "أشياء صغيرة". دار العلم للملايين، بيروت. الطبعة الأولى 1954]